اعتراف #ar_confessions_451

أنا شب، عشت كل عمري بالشام، بيتنا كان قديم بباب توما، ما كان عنا شي مميز بالحياة، بس كنا مبسوطين، أو بالأحرى، متعودين. أمي كانت ست بيت عادية، بتحب النظافة وبتخاف عالسيرة، وأبي كان موظف بسيط بمصلحة حكومية، بيصَحى بكير، بيشرب قهوته، وبيطلع عالشغل، بيرجع عالضهر، وبيتحمّم، وبينام، وخلص... سنين نفس الروتين، ونفس النفسية. ما كان يحكي معنا كتير، وكان كل شي بيصير معنا بالحياة بيخلص بجملة: "شو بدنا نعمل، هيك الله كاتب".

أنا كنت الولد الأوسط، لا الكبير اللي بينخاف عليه، ولا الزغير اللي بيندلع. كنت موجود، بس مش واضح، ما في حدا يسألني "شو بدك؟" أو "كيفك؟"، كنت عم كبَر لحالي، مع شوية أصحاب من الحارة، ومع خيالاتي، كنت عطول أتخيل إني بمكان تاني، ببيت فيه ضحك، فيه موسيقى، فيه حضن، فيه "مشتقالك"، مو بس "وين كنت؟".

كبرت شوي، وبلشت أحس إني غير، مو بالمفهوم اللي بتفكر فيه، لا، غير من جوّا، حسّاسي زيادة عن اللزوم، كل شي بيأثر فيني، ممكن دمعة طفل بالشارع تخليني ما نام ليلتين، كلمة من أمي تغلّط فيي تخليني أكره نفسي أسبوع، ومرة لما أبي قال لي "يا فاشل"، انكسرت، انكسرت عن جد، رحت عالمدرسة وقتها متل الزومبي، وراحت السنة كلها هيك، وأنا راسي مليان صدى هاي الكلمة.

وصلت عالبكالوريا، وكان كل شي بالحارة عن هالسنة، "يالله شد حيلك"، "بدنا نفرح فيك"، "بدنا نرفع راسنا"، وأنا عم حاول أدرس وأنا ما بعرف ليش، لشو؟ مشان أفوت جامعة؟ طيب وبعدين؟ نرجع للدوامة؟ كرهت الكتب، وكرهت الدروس الخصوصية، وكرهت كل شي، بس كذبت، متل دايمًا، عملت حالي متحمس، وأخدت كل الهمّ عكتافي، لأني ما بدي حدا يقول عني "خيّب الأمل".

نجحت، ودخلت الجامعة، أدب إنكليزي، ما كنت بفهم كتير بالبدايات، بس لقيت فيه ملجأ، لقيت فيه ناس بتكتب عن حزنهم، عن وجعهم، عن فوضى الحب، ولأول مرة حسّيت إني مو لحالي، حسّيت إنه في ناس بتشبهني، بتبكي وهي ساكتة، بتحس وما بتحكي، بتحب وبتنقهر.

بالسنة التانية، تعرفت ع بنت، كانت متل ضوّ صغير دخل ععالمي، اسمها راما، كانت بسيطة، طبيعية، بتضحك من قلبها، وبتكتب شعر، أول مرة شفتها كانت عم تحكي عن جدتها اللي ماتت، وعيت بنص المحاضرة، وما حد حكى معها، بس أنا رحت وقلت لها: "أنا فاهم عليكي"، وما بعرف كيف طلعت هالجملة منّي، بس عيونها وقتها قالتلي شي ما حدا قاللي من قبل، "أنا شفتك".

صرنا نحكي كل يوم، ونضحك، ونتشارك أغاني، وقصص، وكنت حاسس إنه قلبي رجع يشتغل، بس كان في خوف، كنت خايف إنها تطلع متلي، تطلع عايشة وجوّاها ميتة، بس راما كانت بالعكس، كانت موجعة من جوا، بس بتقاتل، وبتقاوم، وبتكتب، وبتحب الحياة رغم كل شي، وأنا تعلمت منها... شوي شوي.

أحبيتها... من قلبي، من عقلي، من كلّي. بس كنت بخاف قول، كل الحب اللي كنت شايفه بحياتي كان مشوه، ضاربينه، صراخ، شك، خيانة... فما كنت أصدق إني ممكن حبّي يكون حقيقي. بس هي كانت تعرف، كانت تحس، مرة قالتلي "بتعرف؟ أنا بحبك، وبعرف إنك ما رح تقولها، بس بعرف إنك بتعنيها بكل حركة"، وبكيت، بكيت قدّامها، وهاي أول مرة ببكي بوج شخص.

صار في حرب... بلّشت الناس تهج، وجيراننا يهاجروا، والوضع صار بخوف، وهي أهلها قرروا يسافروا، وأنا بقيت، وما قدّرت قولها "لا تروحي"، لأني بعرف إنها ما بيدها، وبعرف إن حتروح، وسافرت، ومن وقتها وأنا كل يوم بكتب لها رسالة، بس ما أرسلها، خايف أزعجها، خايف تكون نسيتني.

اشتغلت بعد الجامعة مترجم، شغل ممل، ساعات طويلة، ومدير سافل، بس لازم أعيش، لازم ساعد أمي بعد ما مرضت، ولازم أضل واقف، حتى لو من جوّا كل يوم بنهار شوي.

مرت سنين، وأنا نفس الشخص، بأماكن جديدة، مع ناس جديدة، بس الروح نفسها، التعب نفسه، نفس الكرسي بالمقهى، نفس المشي الطويل بالليل بدون هدف، ونفس الرسائل اللي ما انبعتت.

من كم شهر، شفت بوست عالفيسبوك، صورة إلها، راما، لابسة أبيض، مبسوطة، مع رجل غريب، فهمت... فهمت إنها تزوجت، فهمت إنه القصة خلصت من زمان، بس أنا لحقت حالي متأخّر.

بكيت، يمكن لأول مرة من سنين بكيت عن جد، وبكيت بصوت، مش بس دموع ساكتة. حسّيت إنه فيي شي مات، أو يمكن أنا اللي متت زمان وما كنت داري، يمكن كنت عم أعيش على ذكرة حبّ، مش الحبّ نفسه.

واليوم؟ اليوم أنا قاعد بهالغرفة الصغيرة، ببيتي اللي مأجره، جنب شباك مطلّ على شارع ممل، بشرب قهوتي، وعم بكتب، متلك هلّق عم تقرا، بس بكتب مو مشان حدا، بكتب مشان أقول لحالي: "أنا كنت موجود، أنا حبيت، أنا وجعت، وأنا لسا عايش".
تاريخ الإرسال: 2025-07-14 - 13:14:03
تمت الموافقة: 2025-07-14 16:14:52
عدد المشاهدات: 9

ردود الفعل

العودة إلى الصفحة الرئيسية

الإبلاغ عن الاعتراف

تم الإبلاغ عن الاعتراف بنجاح. شكراً لمساهمتك في تحسين الجودة.