اعتراف #ar_confessions_453

أنا كنت من النوع اللي ما يحكي، ساكت دايمًا، ما كنت أحب أشرح ولا أبرر، من وانا صغير الكل كان يقول عني غامض، بس الحقيقة إني ما كنت غامض، كنت مجروح، كل يوم عن يوم كنت أفقد ثقة جديدة، بإنسان، بكلمة، بحضن، ببيت، وحتى بنفسي، بس ما كنت أظهر هالشي، كنت ألبس وجهي اللي متعود عليه الناس، وأضحك قد ما أقدر، وأهزر، وأعطيهم الصورة اللي حابين يشوفوها، واللي أنا ما كنت أطيقها، بس مجبور، عشان أمي ما تزعل، عشان أبوي ما يقول عني متغير، عشان أخواني ما ياخدوا عني فكرة إني ضايع، مع إني كنت ضايع من سنين.

أنا من أهل الجنوب، وبتعرف إحنا كيف تربينا، عيب تبكي، عيب تشكي، عيب تقول موجوع، كل شي جواتك لازم تكتّمه، كل شي، حتى لو كنت بتنزف، وحتى لو كل دقيقة بتمر تحس قلبك عم يطيح منك، ما حدا بيهتم، ولا حدا فاضي يسمع، الكل بدو يشوفك واقف، قوي، ثابت، بس ولا حد بيعرف إنك ماشي على حافة، خطوة وبتوقع.

تربّيت ببيت فيه الكلمة الأقسى هي اللي بتمشي، ما كان في شي اسمه "تحب شو"، أو "شو نفسك تعمل"، كانوا يحددوا كل شي، حتى طريقة ضحكتي كانوا يعاتبوني عليها، "اضحك زي الناس"، "لا ترفع صوتك"، "ليش راسك دايمًا لتحت؟"، وأنا كنت أبلع الكلام، وأكمّل، كل يوم بقلّ صوتي أكثر، كل يوم بقلّ نظراتي أكتر، لحد ما صرت كأني ظل، موجود، بس ماله ملامح.

أول مره حسّيت فيها إن قلبي ينبض صح، لما كنت بثاني ثانوي، كانت معلمة العربي، ست كبيرة بالعمر، بس كانت بتعاملنا كأبناء، كانت إذا شافت حدا ساكت أو تعبان تسأل، وكانت إذا شافت الدمع بعين حدا، تطنّش الكل وتقعد معه، وأنا أول مره بحياتي حسيت إن حد سألني "مالك؟" وهو قاصد، مو بس جملة تمر، كنت أحاول أهرب منها، بس هي كانت تعرف توصلني، وبيوم من الأيام، بدون ما أحس، فتحت لها قلبي، حكيت كل شي، حكتلي كلمة مستحيل أنساها: "اللي جواتك مش غلط، اللي غلط إنك تكمّل ساكت".

بعد هالكلمة، بدأت أكتب، أول مرة بحياتي بمسك ورقة وأكتب، مو مواضيع إنشاء، ولا واجبات مدرسية، كنت أكتب اللي جواتي، أكتب كل اللي ما قدرت أقوله من سنين، وكل ليلة كنت أكتب، وأخبي الورق تحت مخدتي، أو بكتاب ما حدا يفتحه، كان عندي عالم خاص، كل شي فيه حقيقي، وكل شي فيه لي، لحد ما أجى يوم وأخوي الصغير لقى الأوراق، وراح أعطاهم لأبوي.

اللي صار بعدها كان صدمة، أبوي مزّقهم قدامي، وحكى كلام ما بنساه طول عمري، "ما نربي رجال يكتبوا تفاهات"، "عيب"، "استحي عحالَك"، وما كنت قادر أرد، لا لأنو معه حق، بل لأني اتكسرت، مش بس هو مزّق الأوراق، هو مزّقني أنا، حسّيت كأنو سحب مني الشي الوحيد اللي كنت أتنفّس فيه.

من بعدها ما عاد كتبت، ولا عاد حسّيت إني أستحق شي، درست التخصص اللي بدهم إياه، تخرجت، اشتغلت، واشتغلت، واشتغلت، بس ما عشت، كان جسمي بالمكان، بس روحي بمكان تاني، حتى أصحابي لاحظوا، صرت ما أرد، وما أضحك، وما أطلع، بس موجود عالهامش، مثل خيال مرا مكسورة، تشوفه، بس ما تلمسه.

تزوجت، مش لأني كنت جاهز، ولا لأني حبيت، بس لأنو لازم، الكل حكى، "كبرت"، "لازم تستقر"، وأنا استقريت، بس مو بالحب، استقريت بالحزن، جبت أول ولد، فرحت فيه، بس بنفس الوقت كنت خائف، خائف أطلّع فيه وأشوف وجهي، أو أسوّي معه نفس اللي سوّوه فيني، كنت أحضنه وأنا أبكي، ولما يكبر شوي ويبكي، أضمّه وأقول له "ابكي قد ما بدك"، لأنو أنا ما سمحوا لي أبكي، وبدي هو يكون حر.

مرتي ما كانت تفهمني، حاولت تحبني، حاولت تفهم سكوتي، بس ما قدرت، وأنا ما كنت أقدر أشرح، لأنو ما كنت أعرف أشرح، أنا كنت تعلّمت من زمان كيف أكون جدار، صلب من برّا، بس متآكل من جوّا، وهي تعبت، وأنا كمان، لدرجة إنو يوم من الأيام حكتلي: "أنت معك، بس مش معي"، وكنت بدي أصرخ وأقلّها "أنا مش معي كمان"، بس سكت، مثل العادة.

السنين مرّت، وأنا كبرت، بس جوّاي لسا طفل خايف، طفل ما نسمع، ما نحب، ما تحضن، طفل كان يكتب رسائل للعتمة، ويحكي للسكوت، طفل ما عمره حس بالأمان، ولا شعر إنو مو غلط.

هلأ صار عمري ٤١، وعندي ولدين، وبشتغل، وباكل، وبنام، وبصحى، بس كل يوم وأنا عم أمشي بالشوارع أو بسيارتي، بمرّ من جمب أي مكتبة وبتطلع بعيوني دمعة، لأنو بتذكّر إنو كان ممكن أكون كاتب، أو شاعر، أو حتى مجرّد إنسان بيحكي، بس انكتمت، وخاف، وانحكم عليه بالصمت الأبدي.

وهلأ، وأنا بكتب هالاعتراف، ما بعرف ليش بكتب، بس يمكن لأنو قلبي تعب، ويمكن لأنو الورق صار مرة تانية ملجأي، ويمكن لأنو ما ضل غير هالطريقة أقول فيها إني كنت هون، إني كنت إنسان، وإني كنت أستحق... بس ما حدا أعطاني فرصة أكون.
تاريخ الإرسال: 2025-07-14 - 13:17:02
تمت الموافقة: 2025-07-14 16:17:15
عدد المشاهدات: 9

ردود الفعل

العودة إلى الصفحة الرئيسية

الإبلاغ عن الاعتراف

تم الإبلاغ عن الاعتراف بنجاح. شكراً لمساهمتك في تحسين الجودة.