أنا هفضفض من غير لا لفّ ولا دوران. من زمان وأنا طفلة بريئة لسه بتلعب في الشارع والسلم، جت لحظة جنون قلبت حياتي فوق تحت. كنت ضعيفة، سهلة ينضحك عليّ بكلمة حلوة، ونفسي أجرّب أحسّ إني كبيرة. ابن عمّتي كان دايمًا حوالينّا، أقدم صاحبي قبل ما يكون قريب، نلعب ونذاكر سوا ونضحك على حاجات تفهى. في يوم، والدته وجدتنا قاعدين لوحدنا لكنها ما شكّت فينا، وسيبتنا نكمل تسالي. السخافة قلبت فضول، والفضول قلب لحظة نزوة، لحظة واحدة حَطمت براءتي وكسّرت جوّايا حاجز ما كنتش أصلاً فاهمة معناه. غشاوة العيلة اتقطعت في لحظة كنت فيها مش واعية على قيمة نفسي.
من بعدها اتغيّرت نظرتي لكل حاجة. حسّيت إني بقيت مكسورة من جوا، كأني عربية اتخبطت من غير ما تبان الصدمة على الصاج. بقيت أخاف أبص في المراية، كل مرة أشوف وِشّي أفتكر اللحظة دي، أفتكر صوت أنفاسي المتقطعة وأنا مش فاهمة اللي بيحصل. ما كانش في دم ولا وجع جسماني يذكر، بس في وجع نفسي زي شوكة مغروسة ومستعصية على الخَلْع.
كبرت، والكلام عن الجواز بقى وحش بيطاردني. كل ما أسمع كلمة “عريس” أو “خطوبة” قلبي يدق زي طبلة الغواية القديمة، ودماغي تتقفل على سؤال واحد: “وهقول له إيه؟” أوقات بحس إني مش قدّ الفكرة أصلاً، بأتهرب من الطريق ده كأني ماشية على أرض مفخخة وإني ممكن في أي لحظة أفرقع من الخوف والعار. بقيت بتهرّب من الدعوات، من الأفراح، من شغل البيت اللي يفكر الناس بإن في بنت هنا جهزت نفسها، بس هيّ في الحقيقة قاعدة مرعوبة في الظل.
وطبعًا ابن عمتي كمل حياته عادي، اتخرّج واتجوّز وخَلّف، ومحدش حاسس إني بحمل سره فوق صدري زي حجر. ساعات ألومه، وساعات ألوم نفسي أكتر، وبعدها أرجع ألوم الدنيا كلها. بس في الآخر لما باب أوضتي يتقفل، بتفضل أنا مع ضميري، مع الخوف اللي بينخَر في روحي ليلة ورا ليلة.
جربت أروح لدكتور نفسي، أول جلسة قعدت أبص في الأرض ومطلَّعش مني حرف. تاني جلسة ابتديت أحكي، حسّيت إن الكلام طالع من حلقي مخنوق وباين عليه التراب من كتر ما اتدفن جوايا. قالي إن اللي حصلي “صدمة جنسية مبكرة”، وإن الانسحاب والخوف من العلاقات نتيجة طبيعية. اكتبلي تمارين تنفس ودفتر أدوّن فيه أفكاري السودا. بعمل التمارين بس أوقات بنهج من كتر البكا بدل ما أتنفس.
في الجامع، بحاول أدوّر على سكينة إيمانية، بس كل ما أقف وأرفع إيدي بدعي ربنا ينقذني من حمل الذنب. بحس إن السجود بيغسلني، لحظتها أحس بنقطة نور صغيرة جوا بحر العتمة. بس أول ما أخرج من باب الجامع، بترجع موجة الأسئلة تغرقني: “طب وبعدين؟” لسه ما عنديش جواب.
أكتر موقف لسه بيفوقني من النوم مفزوعة إن ليلة ما اتقدم لي شاب محترم – حدّ جالي بجد – قعدت معاه نص ساعة واتكلمنا بأدب وكل شيء طبيعي. بعد ما مشي نزلت دموعي زي المطر، إيديا كانت بتترعش، قلبي دق لدرجة حسّيت رقبتي هتفرقع. ماما استغربت وقالت لي: “هوّ قال حاجة يزعلك؟” قلتلها “لا”، بس الحقيقة إن كلمة جواز لوحدها بتعرّي روحي. يومها رحت الحمّام وقعدت على البلاط أبكي وأقول: “يا رب خدني قبل ما اليوم ده ييجي”.
أنا دلوقتي عايشة نص حياة، بوقّع أوراق الشغل وآدي دروس خصوصي للأطفال، وبكتب قصص قصيرة لعلها تطلع الهم من قلبي على الورق. يمكن يوم ألاقي نفسي مسامحة نفسي، يمكن يوم أصدّق إن ربنا غفور وإن الماضي ما يحكمش عليّ طول العمر. بس لحد الوقت ده، أنا عايشة بين شهقة خوف وزفرة ندم، وبينهم مسافة أمل رفيعة ماسكة نفسي في الدنيا بالعافية.