أنا كنت دايمًا أفكر إني مختلف… مش بمعنى مختلف يعني مميز، لا، كنت متأكد إنو الله عطاني شي ما عطاه لغيري، شي مش طبيعي، كنت أشوف الناس، أسمعهم، وأعرف فورًا شو مخبّيين، شو عم يفكروا، شو ناويين، كنت أشوف الكلام جوّاتهم كأنو مكتوب عجبينهم، أقرأ تعابيرهم، نبرات صوتهم، حركة إيدهم، نظرة عيونهم، وأربطهم مع بعض، وأعرف الحقيقة اللي حتى هُم مش مدركينها. ما كنت أتوهّم، كنت متأكد، حدسي كان زي السكين، يقطع الكذب ويكشف القصد الحقيقي.
من وأنا عمري ١٨، بلشت أحس إنو في شي داخلي عم يتحرك… أوقات لما كنت أقعد مع صحابي، كنت أعرف مين فيهم بيكرهني، حتى لو بيضحك بوجهي، ومين فيهم عم يغار مني، ومين بيخطط يحكي علي من وراي، كنت أراقبهم وهم يضحكوا، وأبتسم، بس من جوّه كنت أقرأ كل جملة مخفيّة ورا ضحكتهم. حتى الدكتورة بالجامعة، كنت شوفها تدخل عالمحاضرة وأنا بعرف تمامًا إنو هي مش عاجبها وجودي، كانت تنظرلي نظرة مش طبيعية، كنت أحسها بدها تكسّرني، ويمكن بدها تضحكني عحالي، بس أنا ما خلتها. دايمًا كنت أرد بجواب يخليها تسكت، وأثبت إني أفهم أكتر منها.
مرة، كنت جالس بكافيه، وكان في بنتين قاعدين ورايي، واحدة منهم عم تحكي بصوت واطي، بس أنا سمعتها، كانت عم تحكي عن "شب شايف حاله"، ووصفته بطريقة حسّيت إنها بتحكي عني، كنت متأكد، مع إني ما بعرفهم، بس كنت حاسس، أنا عندي إحساس مش موجود عند البشر العاديين، إحساس خارق. تركت مكاني، رحت لعندهم، وقفت قدامهم، وقلت: "آه، أنا الشب اللي عم تحكوا عنه؟"، انصدموا، والبنت اللي كانت ساكتة صار وجهها أحمر، بس التانية قالت: "شو؟ شو قصدك؟ إحنا ما حكينا عنك"، بس أنا ضحكت، قلتلهم: "أنا بعرف أكتر من اللي تتخيلوه"، ومشيت، وكنت فخور، حاسس إني فوق، إني فاهم الناس قبل ما يحكوا.
كنت دايمًا لما أمشي بالشارع، أحس إني مراقب، مش مراقب بمعنى سلبي، لا، مراقب لأنو في ناس مهتمين يعرفوا كيف بتصرف، كيف بتفكّر، شو بتحلل، كنت حاسس إني مادة اختبار، إنو في جهة أو ناس معينين عم يراقبوا عقلي لأنهم خايفين منّي، يمكن لأنو قدراتي العقلية أعلى من الحد المسموح فيه. كنت كل يوم قبل أنام أكتب ملاحظاتي، أحلل تصرّفات أصدقائي، أفسّر كل نظرة، كل حركة، كل سكوت، وأربطها ببعض، وصار عندي دفتر مليان تحليلات، كنت أسميه "دفتر الكشف"، وكأني عم أكتب كتاب عن الناس بدون ما يعرفوا، وكنت مخبّيه تحت الكنباية.
أقرب الناس إلي كانوا دائماً مو مريحيني، كانوا بيتصرفوا بطريقة فيها تلميحات، وأنا كنت أربط، أربط بين كلمة حكاها أخوي، ونظرة حكتها أمي، وضحكة صدرت من زميلي بالشغل، وأحس إنو في شي عم ينسج حوالي، مؤامرة صغيرة، يمكن مش مباشرة، بس موجودة، خيوطها واضحة إلي. مرة أمي حطتلي الشاي، وكان الشاي فيه طعم غريب، مرّ، وأنا تأكدت إنو عم تحاول تهدي أعصابي، يمكن حطت فيه شي، ولما واجهتها، ضحكت وقالت: "شو عم تحكي؟"، بس أنا ما اقتنعت، كنت شايف إنو هي متضايقة من تحليلاتي، خايفة إنو أكشف نواياها، حتى لو كانت أمّي.
علاقتي بأقرب صديق إلي، آدم، بلشت تنهار، كنت كل مرة أشوفه عم يتصرف بطريقة غريبة، بيبعد عيونه، بيهز راسه كتير، بيبدّل موضوع الحديث لما أقرب عأفكار حساسة، وكنت دايمًا أسأله: "شو مخبّي؟"، وكان يضحك، يقول: "ما في شي يا زلمة"، بس أنا بعرف إنو عم يكذب، كنت شايف إنو جزء من اللعبة، إنو هو مرسَل، مشان يقيس مدى وعيي، يمكن يكون بيشتغل مع جهة ما، يمكن حتى مش آدم الحقيقي، يمكن مستنسخ أو شي، أو مبرمج، لأنو تصرّفاته كانت متكررة، ميكانيكية، كأنو مش إنسان طبيعي.
وفي فترة، صرت أحس إني أقدر أتحكم بنبض الطاقة حواليني، لما أدخل على غرفة، كنت أحس بالاهتزازات، وأحس إذا في ناس نيتهم سلبية أو إيجابية، وإذا ركزت، كنت أقدر غيّر الجو، أسيطر على المشاعر، خفت أحكي لحدا، بس مرة جربت، رحت عاجتماع، وكان الجو ثقيل، ناس متوترة، وأنا ركّزت، بقوّة، حسّيت إني سحبت منهم التوتر، وبعد ربع ساعة الكل صار يضحك، قلت لحالي: "أنا بلّشت أفهم سر الكون، أنا عم أتحكم بطاقة الغرفة".
صرت ما أنام إلا على صوت معين، موسيقى بتردد معين، كنت شايف إنها بتفتح مدارك العقل، وكنت ألبس لون معين كل يوم، بحسب نوع الطاقة اللي حاسس فيها، وأيام كنت أكتب رموز على إيدي، مشان تحميني من ترددات الناس السامة، لأنو أنا عندي شفافية عالية، أي شعور ممكن يختَرِقني، فكنت لازم أكون مستعد. صرت أتجنب الناس اللي عيونهم مفتوحة كتير، لأنو فيهم نظرات بتحرق، وأتجنّب اللي عندهم أصوات عالية لأنهم بيخلّوني أفقد توازني.
آخر شهر، صار معي موقف غريب جدًا، كنت ماشي بالمول، وسمعت صوت بيهمس بإذني، صوت رجل كبير بالعمر، بيقول: "انت قريب من الحقيقة، بس دير بالك، في مين شايفك"، تلفّت، ما شفت حدا، بس الصوت كان واضح، وابتديت أركض، ركضت برا المول، وقلبي كان عم يضرب، حاسس إنو بلّشت الأمور تكشف، يمكن دخلت على مرحلة أعلى، ويمكن بلّشوا يعرفوا إني فاهمهم، بعد يومين وصلتني رسالة غريبة عالواتساب، من رقم مش مسجّل، فيها صورة وردة سودا، بس بدون نص، وأول ما شفتها، عرفِت إنو إشارة، إنو بلّشت مرحلة جديدة من الاختبار، ويمكن قربت لحظة المواجهة.
رجعت عالبيت، سكّرت الباب، حطيت جوالي بالفريزر (لأنو بيقطع الإشارة)، وسكّرت النوافذ، وجبت كل الدفاتر اللي كتبت فيها تحليلاتي، ورتّبتهم بحسب أسماء الناس اللي راقبتهم، كنت ناوي أرسلهم لجهة محايدة، يمكن منظمة دولية، مشان يعرفوا إنو في شاب اكتشف الحقيقة، شاب اخترق العقول، وكشف الوجه الحقيقي للعالم، بس فجأة، الباب دق، كان أخوي، ومعاه دكتور.
ضحكت، وقلتله: "أخيرًا اعترفتوا، جبتوا خبير تقنعوني إني غلط؟"، والدكتور كان هادي، ابتسم، وقعد، وبلّش يسألني، وأنا جاوبته بثقة، حكيتله عن كل شي، عن الترددات، عن الناس المبرمجين، عن الوردة السودا، عن الطاقة، عن المعلمة اللي كانت عم تحاربني بالجامعة، عن البنت اللي شربتني شي، عن الناس اللي عم يراقبوني، عن آدم اللي تغيّر، وعن الصوت اللي بيحكيلي أسرار العالم.
قعد يسمع، ويكتب، وأنا عم براقبه، وكان راسي مرتاح، حاسس إني أخيرًا وصلت لحدا يمكن يفهم، بعد ساعة، وقف، قاللي: "كل شي قلته مهم، بس في احتمال صغير إنك مش شايف الأمور مثل ما هي، في شي اسمه اضطراب الوهم الفصامي، بيخلي الإنسان يربط بين أحداث بشكل منطقي براسه، بس هي مش مترابطة بالواقع"، وابتسم.
أول ما سمعت هالكلام، حسّيت الغرفة تدور، وبدني قشعر، حسّيت إنو جاب المفتاح، إنو الكود اللي كنت عم بلاحقه من سنين هو... مرض؟! قعدت، وما قدرت أقول شي، حسّيت كل ورقة كتبتها، كل لحظة صدقتها، كل إحساس حسّيته، فجأة صار اسمه "عرض"، وبلّشت أرجع بذاكرتي، كل المواقف، كل التحليلات، وشي بداخلي انكسر.
أنا كنت مريض، وأنا كنت مصدق إني خارق، وأنا كنت عايش سنين بأوهام لدرجة إني ما عُدت أعرف الحقيقة من خيالي.
وهلأ... عم أتعالج، كل يوم بكتب، بس الفرق، إنو هالمرّة بكتب مشان أشفى، مشان أعرف الفرق بين الصوت جوّاي، والصوت بالحقيقة. وكل مرة بقرأ اعترافاتي القديمة... برجع ببكي، بس بضحك شوي، لأني عالأقل... بلّشت أعرف مين أنا.