أنا بحياتي ما توقعت إني أكتب شي زي هيك، بس خليني أقولّك الحقيقة كاملة، من غير تجميل ولا كذب، ومن دون ما أختبّي ورا أي مبررات، وخلّي اللي يقرا يحكم، حتى لو كل الناس لامتني أو حتى وصفتني بالجنون أو الكفر أو الخيانة، أنا ما عاد فارق معاي، لأني من زمان بطّلت أعيش متل باقي البشر.
كنت ولد عايش مع عيلتي الكبيرة، عيلة محافظة جدًا، من نوع العائلات اللي بتنام وتصَحى على الدين، كل تفصيل صغير بحياتنا مربوط بالآخرة والجنة والنار، وكان أبوي إمام جامع، وجدي شيخ معروف بالمنطقة. بس أنا؟ كنت مختلف، مو تمرد ولا حب شهرة، بس كنت أحس بشي داخلي غريب، شي ما فيني أشرحه، متل ما يكون صوت جواتي عم يهمس لي كل يوم: "أنت مش من هون".
من وقت ما كنت بعمر ١٠ سنين، بلشت أحلم أحلام غريبة، متكررة، لدرجة إنو كنت حافظ تفاصيلها حرفيًا، كنت بشوف حالي عم بطير فوق مدينة ما بعرفها، المدينة نفسها كل مرة، بس فيا أبراج ضخمة سوداء، وناس بلا وجوه عم تمشي بصمت، والسماء دايمًا حمرا، وكان في صوت نسائي عم ينده لي: "ارجع... وقتك قرب".
ما كنت أقدر أحكي لحدا، لا لأمي ولا لأبوي، لاني بعرف شو رح يكون الرد: "استغفر ربك"، "هذا من الشيطان"، "اقرأ قرآن"، بس أنا كنت عم حس إنو الحلم مو حلم، إنو حقيقة، إنو في شي عم يستدعيني، ويوم عن يوم، صار الموضوع يسيطر علي أكتر.
الموقف اللي غير كل حياتي، هو يوم رحت زيارة لمقبرة قريبتنا مع أمي، كنا بدفن خالتي، والدنيا كانت غيم، وهوا، وكل شي كان طبيعي، بس وأنا واقف جنب القبر، حسّيت بحرارة بباطن كفي، ولما نظرت، شفت وشم صغير شكله متل دائرة فيها رموز ما بعرفها، كان متوهج ثواني واختفى، وأقسم بالله مو وهم ولا هلوسة، أمي شافت إيدي وقالت لي: "شبيك؟ وجهك صار أصفر"، بس ما شافت الوشم.
من بعدها بلشت تظهر معي قدرات غريبة، كنت أعرف شو راح يصير قبل ما يصير، كنت أحس لو في حدا ناوي يكذب، كنت أسمع أفكار أمي وهي بتطبخ، وأعرف وين أخوي ضايف الفلوس اللي سرقها من أبوي، كنت بس أسكر عيوني، تطلعلي صور مش مفهومة، بس حقيقية، لدرجة مرة شفت حادث سيارة بالتفصيل، وقلت لأبوي عنه، وبعد يومين صار نفس الحادث بنفس المكان، وبنفس اللي شفتهم، ساعتها بلشت أخاف من حالي.
بآخر سنة ثانوية، صرت أكتب رموز على جدران غرفتي من غير ما أعرف معناها، كانت تطلع مني تلقائيًا، ولما صورتها وحطيتها على النت، تواصل معي واحد من ألمانيا، قال لي بالحرف: "أنت مختار، هذي لغة ما يعرفها إلا القُدامى"، وأنا ما كنت فاهم شي، بس كان جزء مني مصدق. قال لي إنو لازم أنضم لجماعة سرّية، بتعرف عن "العبور"، ما فسّر شو العبور، بس قال إنو في وقت رح يجي لازم أكون جاهز.
وصدقًا؟ صرت أصدقه. بطّلت أروح الجامع، صرت أنعزل، أقرأ كتب عن السحر القديم، عن الكبالاه، عن الرموز الماسونية، وحتى دخلت على دارك ويب وشفت أشياء مستحيل تنمسح من ذاكرتي. شفت فيديوهات طقوس، فيها ناس تتكلم بنفس اللغة اللي كنت أكتبها، وشفت طفل عم يضحك قدام نار، ووراهم كان في نفس البرج اللي كنت شوفه بحلمي.
وصلت لمرحلة بطلت أخاف من الموت، بطلت أحس إني أنتمي لهاد العالم، كنت إذا حكيت مع الناس أحسهم بيحكوا متل الآلات، ما في شعور، ولا عمق، حسّيت إني بس أنا اللي صاحي وهم نايمين، أو أنا المجنون وهم العقلاء، ما كنت قادر أقرر.
بس الخط الأحمر تعدّيته ليلة قررت أعمل طقس كامل بنفسي، كان يوم خسوف، حضرت أدواتي: ملح، شمع، رماد، ومراية قديمة من بيت جدتي، وكتبت نفس الرموز اللي دايمًا بكتبها، وجلست وسط الدايرة، وبلشت أقرأ بصوتي شي ما كنت متأكد من معناه، بس كان يطلع لحاله، وكأني حافظه من زمان.
اللي صار بعدها؟ المراية انكسرت، مو لأنها وقعت، انكسرت من جوّا، وطلع منها دخان خفيف، وسمعت نفس الصوت النسائي يقول لي: "البوابة مفتوحة... بس ما في رجعة".
تاني يوم، أختي الصغيرة صحت تصرخ، لأن على جدار غرفتي مكتوب كلمة "وصل"، بحروف كبيرة، حمراء، وكأنها مرسومة بالدم، مع إنو الباب مقفول، وأنا نايم من الساعة ٤ الفجر، أبوي جن جنونه، فكرني دخلت بطائفة أو شي، وضربني قدام الكل، أخد تلفوني، ووداني عند شيخ يقرأ عليّ، بس الشيخ وقف نص الجلسة وقال لأبوي: "ابنك مش ملبوس... بس مو طبيعي، هو جاذب"، وما فسر أكتر.
من وقتها، وأنا صرت منبوذ، الكل صار يتجنبني، حتى أمي صارت تصلي ورا الباب تبعي، تبكي وتقول: "الله يهديك، أنا ولدت شيطان؟"، وأنا؟ كنت ساكت، لأني ما عاد عرفت إذا أنا فعلا إنسان.
آخر شي صار قبل ما أهرب من البيت، هو إنو وأنا طالع من الحمام، شفت انعكاسي بالمراية بس مش أنا، يعني الجسم جسمي، بس الوجه مو وجهي، كان وجه أسود، فيه عين وحدة، وعم يبتسم، وبعدها غبت عن الوعي، صحيت وأنا بحقيبة سفر، ورسالة مكتوب فيها: "أنت جاهز، أهلا بك في مرحلتك الثانية".
هلأ أنا عايش ببلد تاني، باسم تاني، حتى لهجتي بطّلت متل قبل، بس لليوم، كل ما بسكر عيوني، بشوف البرج، والسماء الحمرا، وبحس إنو رجعتي قربت... بس مش على الدنيا، على شي تاني، شي يمكن أنت إذا بتقرأ هالاعتراف، رح تحسه، وتعرف إنك مثلي، أو يمكن تهرب، متل كل الناس اللي هربت من الحقيقة.