أنا كنت أعيش حياة عاديّة، أو على الأقل هذا اللي كنت مقتنع فيه، لحد يوم معيّن غيّر كل شي، وصار عندي فوبيا... مش فوبيا من الظلام، ولا من الأماكن العالية، ولا من الحشرات، لا، فوبيا من "العيون"، إي والله، العيون... نظرات الناس، صور العيون، حتى عيوني أنا ما عاد أقدر أطلع فيها بالمراية، وكل هالشي سببه حادثة وحدة، وحدة بس، بس تركتني إنسانة مشوّهة من جوا، مفصولة عن المنطق، عن أي شي له علاقة بالثقة أو الراحة.
كلشي بلّش لما كنت بشتغل موظفة استقبال بمركز طبي، الشغل كان عادي، الروتين ممل شوي، بس كنت مرتاحة، فيي أقول إنو كنت واثقة من حالي، حاطة مكياجي، لبسي مرتب، بضحك مع المرضى، لحد ما دخل يومها رجل غريب، ما بحياتي شفت شخص بهالغرابة، كان طوله مو طبيعي، يمكن فوق ١٩٠، ولونه باهت، متل الجير، وعنده عينين رماديات بس فيهن شي... شي مو مريح، عيونه كأنها ما بترمش، متل ما تكون كاميرا مراقبة شغالة على مدار الساعة.
قالي أول ما دخل: "أنا جاي على عيادة العيون"، وعطاني ورقة تحويل، بس وأنا عم طبعله الكرت، حسيت إنو واقف وراي، قريب كتير، لدرجة حسيت نفسو عرقني، لما التفت، شفتو عم يطلع فيني، مو بوجهي، بعيوني، متل ما يكون عم يقرأ أفكاري من جوّا، كأني شفافة قدامو، وقال شي ما بنساه بحياتي: "عن قريب... ما رح تحبي تناظري شي". ابتسم، ومشي.
رجع ثاني يوم، بس بدون موعد، وطلب يشوفني، المدير رفض يدخّلو، بس هو ظل واقف برا ساعة كاملة، وأنا من ورا الستارة شفتو ما رمش ولا غمض، كل الوقت عيونو مفتوحة وبتحدّق بباب الاستقبال، وبعدها راح.
من هداك اليوم، بدأت أحس شي غريب، أولها كنت أتخيل ناس عم يراقبوني، بالشارع، بالباص، بالبيت، حتى لما أنام، كنت أحس إنو في عيون حواليني، أول ما أسكّر عيوني، أحلم بوجوه مليانة عيون، حتى جبينهم، خدودهم، شفايفهم، كلشي مغطى عيون... صاحية، مش نايمة، وما ترمش.
رحت عند دكتور نفسي، قاللي عندي "بارانويا"، أعطاني أدوية، بس ولا شي نفع، بالعكس، صار عندي نوبة أول مرة فتحت التلفزيون وشفت إعلان لمستحضرات عناية بالبشرة، وكان الإعلان فيه عيون قريبة بشكل مبالغ فيه، وقعدت أصرخ، كسّرت الشاشة، جبت سكينة من المطبخ وصرت أقص الصور بالمجلات، كل صورة فيها عينين كنت أمزّقها.
موقف من أغرب المواقف اللي واجهتني كان لما خطيبي (وقت ما كنت لسا مخطوبة) قرر يعمللي مفاجأة، وجبلي عدسات لاصقة ملوّنة هدية، وقاللي: "عيونك حلوة، بس حبيت أشوفك بلوك جديد"، وأنا لحظتها فقدت السيطرة، صرت أبكي وأصرخ، قلتله: "ليش بدك تغير عيوني؟! بدك تقتلني؟!"، وركضت على الحمّام، وضلّيت ساعتين حابسة حالي، ووقت فتحت المراية، شفت عيوني بتتكاثر، إي، شفت بأني لي أربع عيون، وكل وحدة بتتحرك باتجاه، وأنا بموت من الرعب.
خطيبي تركني، قال لأهلي إني فقدت عقلي، وفعليًا، الكل صار يبتعد عني، حتى أمي بطلت تفتح النور لما تدخل عليّ الغرفة، صار عندها قناعة إني لازم أعيش بعتمة، لأني بصير هستيرية إذا شفت صور فيها عيون، أو حتى رسم عيون، حتى لما كنت أعمل روتين عناية، بطلت أستخدم كحل، بطلت أرسم حواجبي، بطلت ألبس أي شي فيه عيون، أو حتى نقاط، كنت أعتبرها ممكن تتحول لعيون وتراقبني.
مرة رحت عند شيخ، وقعد يقرأ عليّ، وقاللي: "العين بتصيب"، وأنا قلتله: "مش بس بتصيب، هي لعنة، لعنة العيون، وأنا مسحورة بنظرة"، بس ما صدقني، وصرلي أكتر من مرة حاولت أشرح له إنو في "نظرة" معيّنة، بتنتقل من شخص للتاني، وكل ما شفتها بعين حدا، بعرف إنو هو صار حامل اللعنة متلي.
وصلت لمرحلة إني غطيت كل المرايات بالبيت، حتى شاشة الموبايل غطيتها بورق، وما بفتح كاميرا السيلفي نهائي، وبغرفتي علّقت ستاير سميكة، ولبست نظارات سودا حتى بالليل، بس لما حاولت أشتغل من البيت، رفضوا يعطوني شغل، لأنهم قالولي: "بدنا اجتماعات بالفيديو"، وأنا قلت: "أنا بخاف من العيون"، وطبعا ما فهموا، وضحكوا، وقطعوا عني الشغل.
الذروة كانت يوم رحت على عيادة نفسية جديدة، دخلت عند الدكتورة، وبلشت أشرح، وعيونها كانت سودا وواسعة، بس في لحظة، وهي عم تكتب ملاحظات، رفعت راسها وقالت: "بعرف شو شايفة... بس صدقيني، انتي بعدك ببداية العتمة"، وأنا ساعتها انفجرت، قلتلها: "إنتي كمان؟!"، ورميت الطاولة، وهربت، ومن يومها، ما عدت طلعت من البيت، وبديت أكتب، بس أكتب وأنا مغمّضة، وعايشة بهالواقع اللي صار هو الحقيقة بالنسبة إلي.
إذا سألتوني اليوم شو السبب الحقيقي، رح أقول: ما بعرف... يمكن هاي لعنة، يمكن مرض نفسي، يمكن الرجل الطويل اللي دخل عيادتنا كان شيطان، أو يمكن أنا بس ضحية هلوسة معقّدة، بس الحقيقة الوحيدة اللي بقدر أحكيها بثقة هي: أنا بخاف من العيون... بخاف منها لدرجة الموت، وهي الشي الوحيد اللي متأكدة إنو عم يقتلني، ببطء، وبصمت، بنظرة.