اعتراف #ar_confessions_484

كنت دايمًا اسرق من جيبة ابوي، من الجاكيت اللي كان يعلقه عالحيط أو يحطه عالكنباية قبل ما ينام، كنت افوت عالغرفة وأتأكد إنه نايم، أمد إيدي على خفيف وآخذ ليرة، ليرتين، بالكثير خمسة... كنت احسب حالي ذكي، وما كنت اعرف اني كنت غبي جدًا، أغبى مما بتتخيل.

أذكر أول مرة عملتها كان عمري ١١ سنة، كنا راجعين من المدرسة، وكنت بدي اشتري شبس وبيبسي من الدكانة اللي عالزاوية، رحت لجأت للجاكيت، ولقيت فيه خمس دنانير، وقتها حسيّت إنه مبلغ كبير، قلبي صار يدق، بس خبيتها بجيبي، ومشيت عالدكانة، شريت اللي بدي اياه، وكان طعمه غير عن العادي، طعمه في ندم، بس مش واضح، متخبي ورا نشوة “السرقة الناجحة”.

صرت أعملها دايمًا، وكل مرة أقول هاي آخر مرة، بس أرجع تاني يوم وأمد إيدي، كأني تعودت، كأني صرت عبد للمصروف الجاهز، حتى لو كان حرام، حتى لو كان من ابوي، ما كنت أستوعب وقتها معنى "فقير"، ما كنت أفهم إنو ابوي لما يترك بجاكيته خمس دنانير، كان يمكن هاد كل اللي معاه.

ابوي ما عمره ضربني، ولا حتى شك فيني، كان يضل يشتريلي كلشي بقدر عليه، أواعي المدرسة، دفاتر، شنطة جديدة، وكل سنة، كان يشتريلي كيك بعيد ميلادي، مع إنه نادرًا كنا نحتفل كعيلة. كان بس يحاول يعمللي لحظة فرح، لحظة أحس فيها بالأمان، وأنا بالمقابل، كنت أسرقه.

كبرت، وصار عمري ١٦، وبهذاك الصيف، ابوي مرض، وصار يضعف يوم عن يوم، كان يحاول يضحك، بس كان التعب باين بعيونه، وكان يخبي ألم ظهره، وما كان يشكي، ولا يوم، لا لأمي، ولا النا. وبليلة من الليالي، وهو راجع من شغله، وقع على باب البيت، وركضنا عليه، أمي صارت تصيح، وأنا كنت مأخوذ، واقف، مش قادر أتحرك، كأن روحي انسحبت فجأة.

دخل المستشفى، وقعد أسبوعين، وبعدين راح، راح وما رجع، وأنا وقتها كنت حاقد على حالي، مو بس لأنو مات، بل لأنو ما عرفت أحكي له آسف، ولا مرة.

صرت أتذكره بكل لحظة كنت أسرق فيها، بكل ضحكة ضحكلي فيها، بكل سؤال كان يسأله عني وأنا كنت أتهرب منه، صرت أتذكر أيام كنا ناكل خبز وشاي بس، وما كنت أفهم، كنت أفكر إنها وجبة خفيفة، مش فقر. صرت أفتح جاكيته بعد ما مات، نفس الجاكيت، وأحط إيدي بنفس الجيب، بس هالمرة مو عشان أسرق، بس عشان أترجّى الجيب يعطيني لحظة زمان، أعيد فيها كل شي، وأمحي كل خيبتي فيه.

اكتشفت بعد ما كبرت إنو أبوي كان يتدين أوقات، مشان يعطيني مصروف، كان يشتغل شغلتين، الصبح بالحسبة، والمسا بالحديقة العامة، كان يلم قمامة أوقات، مع إنه كان يلبس بدلة مرتبة، كان يعمل أي شي مشان نوكل، نعيش، وأنا، ابن الحرام، كنت أسرقه.

هلأ صار عمري ٢٩، وكل ما أمسك مصاري، أتذكر إيده الخشنة، وجيبه الممزق، وصوته وهو يضحك لما أطلب منه مصاري عشان "طلعة مع الشباب"، وكان يعطي، دايمًا يعطي، حتى لو ما ظل اشي معه.

ما بتذكر ولا مرة قال فيها “ما معي”، دايمًا كان يختلق طريقة، يخترع مصاري من تحت الأرض، وأنا ما كنت أفهم.

بكيت كثير بعده، بكيت على حالي، وبكيت عليه، وبكيت على المصاري اللي كانت تطلع من جيبه، مش لأنه انسرق، بل لأنه ما انقهر، ما صرخ، ما عاتبني، كأنه عرف، وسكت، كأنه حبني كفاية ليغفرلي قبل ما أغلط، قبل ما يعرف.

في ناس بتتفاخر بنجاحاتهم، بشهاداتهم، بسفراتهم، وأنا؟ أنا بتفاخر إني ابنه، بتفاخر إني عشت مع رجل ما بنعاد، رجل مات فقير بس مات كبير، كبير بكل شي، حتى بحنيته، وبصمته.

لو في شي ممكن أتمناه بهالدنيا، فهو لحظة، لحظة بس، أرجع فيها أعتذر، أقول له “بابا، سامحني”، وأحضنه، وأقول له “أنا آسف عكل ليرة أخدتها منك، آسف عكل لحظة ضيعتها وانا مش مقدّرك”.

لما الناس تحكيلي "إنت ابن مين؟"، بحكي "أنا ابن الفقير الشريف"، ابن الزلمة اللي ما خان فقره، ولا باع كرامته، ولا نزل راسه، حتى لما كان جيبه فاضي. وأنا؟ أنا كنت أعيب عليه الفقر، وأنا مش فاهم إنو الكرامة اللي لبسنا ياها، أغلى من أي ليرة.

والله، لو عندي كنوز الأرض، ما بتساوي دمعة نزلت من عيني وهو نايم، وانا بسرق، ولا تنهيدة تعب طلعها وهو حامل كيس الخضرة عشاني.

الحياة علمتني، بس بعد فوات الأوان. وهلأ؟ هلأ كل ما أشوف طفل ماسك مصاري، بسأل حالي: "من وين جابها؟"، مش لأنو شكاك، بس لأنو في قلبي وجع قديم، وجع ما بينمسح، وجع سرقة أبويا، وجع إنو متت ما حكيتله آسف، متت وأنا بعدي خاين الثقة.
تاريخ الإرسال: 2025-07-24 - 09:06:43
تمت الموافقة: 2025-07-24 12:06:49
عدد المشاهدات: 5

ردود الفعل

العودة إلى الصفحة الرئيسية

الإبلاغ عن الاعتراف

تم الإبلاغ عن الاعتراف بنجاح. شكراً لمساهمتك في تحسين الجودة.