اعتراف #ar_confessions_485

من وعيّت عالدنيا وانا حامل كيس الكاز بإيدي، ما أتذكر بحياتي يوم قعدت فيه على الرصيف ألعب مع أولاد الحارة أو حتى ركضت ورا طابة، دايمًا كان في شي لازم أعمله، كأنو اتولدت خدام مو ولد، أبوي من أول ما فتحت عيوني على الدنيا، حط بيدي كرك، وباليد التانية طشت، قاللي: "الرجال ما بينام، الرجال بيشتغل"، وأنا كنت لسه ما بعرف شو يعني رجال، كنت بس حاب ألعب، أركب بسكليتة، أطير طيارة ورق، ألبس نعال وأطبع برجلي عالتراب، بس لا، كنت عم أمسح البلاط، وأشحط الماي من البئر، وأنظف الحمام والسطح، واطعمي العصافير، وأشطف الحوش، وأحمل مشمعات من المشغل، ورايح جاي كأني بزرّ آلي مبرمج عالخدمة.

العطل المدرسية؟ ما بعرفها، كلمة "عطلة" كانت نكتة عندي، بالعطلة بزيد الشغل، وبالويكند بزيد الطين بلة، ما في راحة، ما في تلفزيون، ما في كرتون، ما في "اطلع مع أصحابك"، بس في: "قوم قوم قوم بدري"، "معاي شغل"، "قوم صلح السكين"، "جيب أغراض من السوق"، "نضف أدوات الذبح"، "افتح دكان المشغل"، "سكر دكان المشغل"، "كويلي هاي القمصلة"، وكنت ساكت، صغير وطيب وخواف، ما بقدر أقول لا، وكل ما حاولت أتهرب من شغلة، ييجي الصراخ والتهزيء: "انت رجال؟ ولا بنت؟"، "من هسا لازم تشيل مسؤولية"، وأنا ما بدي أشيل مسؤولية، كنت بس بدي أعيش!

حتى العيد، عيد الله وناس بتتزين وتتمكيج وتلبس جديد، أنا كنت ألبس اللي عليه دم، أطلع مع أبوي من الفجر، نذبح أضاحي، نوصل طلبات، نحمل رؤوس خرفان، نرجع عالبيت مرهقين وأنا ما لحقت أقول "كل عام وانت بخير"، راحت أيام العيد كلها علي، ما شمّيت ريحة فطور العيد، ما شفت المراجيح، كنت مشغول أعبي دم الخرفان بالجلكان، وأكنس الزبل من قدام الزبائن، وكل ما حاولت أقول "بدي أرتاح اليوم"، ينزل على راسي كفّ، أو تنهيدة طويلة منه كأنو شايل هم الدنيا، ويقلي: "ما في وقت، كل العمر قدامك ترتاح".

كبرت، كبرت وأنا ناقم، مو بس عليه، على كل شي، على الطفولة اللي ما حسيت فيها، على الضحكة اللي كانت تطلع مزيفة، على كل مناسبة كنت أحسد فيها أولاد عمي وهم لابسين نظيفين، وأنا ريحتي لحم مذبوح، وكل ما حكيت مع حدا، أستحي أقول إنو أبوي بشتغلني كأنو موظف عنده، ما كنت أحسه أب، كنت أحسه مدير قاسي، أو سجان، وأنا مسجون بـ "خدمة إجبارية" اسمها: إبنه.

بس الغريب؟ الغريب إني رغم كل شي، كنت بخاف عليه، كنت أجيبه دوا لما يمرض، كنت أشتريله دخان حتى وأنا أكره ريحته، بس ما كنت أحبه، ما قدرت أحبه، ما قدرت أسامحه، ما قدرت أنسى إني ما لعبت، إني ما سافرت، إني ما تعلمت موسيقى، ما ركبت لعبة كهربا، إني ما عندي ذكريات طفولة غير صوت صراخه، أو ريحة الكاز، أو صوت سكاكينه وهو بيسنها وأنا واقف ورا حامل الكيس.

صار عمري فوق العشرين، وما في يوم صحيت حسيت حالي خفيف، كل يوم أتقل من اللي قبله، الشغل؟ صار عقدة، لما دخلت أول شغل رسمي، كنت أتجنب أي مدير يشبه أبوي، أي واحد يرفع صوته كنت أرتعب، كل شي بذكرني فيه، أروح البيت كأني راجع من معركة، مو لأن الشغل صعب، بس لأن جواتي طفل لليوم بصرخ "خلوني ألعب!"، بس ما حدا سامعه.

حتى الحب، لما حاولت أحب، ما قدرت، كنت أحس إني لازم أشتغل عشانها، مو أحبها، عشان هيك خسرتها، هي كانت تبغى حضن، وأنا كنت بس بعرف أعطي تعب، كأني مبرمج على التعب، ما بعرف أرتاح، وكل ما جلست لحالي شوي، يرجع صوت أبوي بعقلي: "قوم قوم قوم لا تتعود عالكسل"، وكأني عار إذا ارتحت، وكأني خيانة إذا ضحكت، حتى دموعي صارت غالية، ما تطيح إلا بالسر.

اليوم، بعد كل السنين، أبوي لسه عايش، بس جواتي مات من زمان، وأنا مو مسامحه، يمكن هو يفكر إنه رباني صح، بس أنا عارف إني انكسرِت، ما بدي كان يعطيني فلوس، ولا ألعاب، بس كنت أبغى حضن، كنت أبغى يقول لي: "براحتك"، كنت أبغى أشم ريحة العيد كطفل، مو كجزار صغير، كنت أبغى أنام يوم الجمعة بدون ما حد يصحيني على "نضف الحوش"، كنت بس أبغى أحكي له: "أنا مش آلة يا أبوي، أنا طفل!"، بس فات الوقت، واللي راح ما يرجع، حتى لو بكى… ما يرجع.
تاريخ الإرسال: 2025-07-24 - 09:10:53
تمت الموافقة: 2025-07-24 12:10:58
عدد المشاهدات: 5

ردود الفعل

العودة إلى الصفحة الرئيسية

الإبلاغ عن الاعتراف

تم الإبلاغ عن الاعتراف بنجاح. شكراً لمساهمتك في تحسين الجودة.